عَينِي عَلَى ( لَحْـــــدٍ) -قريبًا- أُقبَـــــرُ

بسم اللهِ الرّحمنِ الرّحيم
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصّلاةُ والسّلامُ على خاتَمِ الأنبياءِ والمرسلينَ، أمَّا بعدُ:
فهذه أبياتٌ يسيرةٌ، نظمتُها تعبيرًا عن ترَقُّبِ النّفسِ لبعضِ المواقفِ بعدَ (الموتِ)!
ولا يدري (العبدُ) مآلَهُ فيها!
سائلةً اللهَ عزَّ وجلَّ أنْ يكرمَنا بعفوِهِ وفضلِهِ ورحمتِهِ!
عَينِي عَلَى ( لَحْـــــدٍ) -قريبًا-  أُقبَـــــرُ  .....   فِيهِ~، وما بِي مِنْ مَعَاصٍ تُبْتَــــــــرُ!
حَتْمًـــــا إلَى الـــــدّيَّانِ يَــــومًـــــا أرْحَـــلُ  .....  عّلِّي هُناك~ في تُــــــرَابٍ  أُسْتَــــــرُ!
فَاسْتُرْ  أَيَــــا رَبَّـــاهُ  قُبْــحَ   المَسْــــلَـــكِ .....    في يَــــــومٍ الأعْمّــــــــالُ فِيْهِ~ تُنْشَــرُ!
عَبْـــدٌ ضَعِيفٌ  قَدْ  أَتَــــاكَ~  مُنْهَـــكُ  .....  رُحْمَاكَ مَبغَـــــاهُ~، ذُنوبٌ  تُغْفَــــــرُ!
مَـــا كَـــــــــانَ فِي دُنْيَـــاهُ مِنْ تَفــرِيطِـــــهِ  .....  لاَ عَمْدَ لا  اسْتِكْبارَ؛ رَاجٍ   يُجبَرُ!
...
نظَمَتْها: حسّانة بنت محمّد ناصر الدّين الألبانيّ -على بحر (الرّجزِ) -، بتاريخ: 16/ شوّال/ 1433ه‍
وعلامةُ (~) إشارةٌ إلى إشباعِ بعضِ الحروفِ، لأجلِ الوزنِ.
...
وسأقفُ على كلمةٍ منها في موضوعٍ مستقّلٍ يأتي في حينِهِ -إن شاءَ الله تعالى-.
أسألُهُ سبحانَهُ وتَعَالى أنْ يتوفَّانا على التّوحيدِ والسُّنّةِ!
~ ~ ~
الأربعاء/ 6/ صفر/ 1434ه‍

"وجوبُ ذكرِ اللهِ سبحانَهُ! وكذَا الصّلاةُ على النَّبيِّ صلّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، في كلِّ مجلسٍ!"...

"وجوبُ ذكرِ اللهِ سبحانَهُ!
وكذَا الصّلاةُ على النَّبيِّ صلّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ
في كلِّ مجلسٍ!"...
بسمِ اللهِ الرّحمنِ الرّحيم...
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصّلاةُ والسّلامُ على نبيِّنَا محمّدٍ وعلى آلِهِ أجمعينَ، أمّا بعدُ:
فهذا موضوعٌ اقتبستُ (عنوانَهُ) ممّا كتبَهُ والدي -رحمهُ اللهُ تعالى- في سلسلتِهِ الذّهبيّةِ "الصّحيحة".
فأتيتُ بالأحاديثِ التي أوردها -رحمهُ اللهُ-، والتي استنبطَ منها هذا الحكمَ، ثمَّ عرّجتُ على بعضِ معاني ألفاظِهَا ومدلولِها؛ وفقَ ما أفادَ بهِ أهلُ العلمِ.
سائلةً اللهَ -عزَّ وجلَّ- أن يكتبَنَا من الذّاكرينَ لهَ -جلَّ شأنُهُ- حتّى نلقاهُ!
فقدْ قالَ ربُّنا تباركَ وتعالى في سياقِ صفاتِ مَنْ أعدَّ لهم مغفرةً وأجرًا عظيمًا:
{وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ}[1]
وقالَ تعالى: {وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[2]
وقالَ سبحانَهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيرًا}[الأحزاب: 41]
فهذِهِ الآياتُ الكريماتُ؛ يأمرنُا اللهُ -جلَّ جلالُهُ- من خلالِهَا بـ (ذِكْرِهِ)!
وليسَ ذلكَ فحسبُ! بل ويحثُّنا على الإكثارِ من (ذكرهِ)! جلَّ وعلاَ!
قالَ الإمامُ (الطّبريُّ) -رحمهُ اللهُ- في تفسيرِهِ:
"يقولُ تعالى ذكرُهُ: يا أيُّهَا الّذينَ صدقُوا اللهَ ورسولَهُ! اذكرُوا اللهَ بقلوبِكُمْ، وألسنتِكُمْ، وجوارحِكُمْ، ذكرًا كثيرًا! فلا تخلُو أبدانُكُمْ من ذكِرِهِ في حالٍ من أحوالِ طاقتِكُمْ ذلكَ!"ا.ه‍
من هديِهِ عليه الصّلاةُ والسّلامُ في التّرهيبِ من تركِ (الذِّكْرِ)!
ويأتي (هدْيُ) نبيِّنا محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليهِ وعلى آلِهِ وسلَّمَ، لنقفَ من خلالِهِ على مآلِنا إن خوتْ مجالسُنَا من (ذكرِ اللهِ)!
هذا الهدْي الذي نقلَهُ الصّحابيُّ الجليلُ: أبو هريرةَ، رضيَ اللهُ عنهْ، عبرَ رواياتٍ عديدةٍ، أسردُها تباعًا:
- فعَنْه رضيَ اللهُ عنهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعلى آلِهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
((مَا جَلَسَ قَوْمٌ مَجْلِسًا لَمْ يَذْكُرُوا اللهَ فِيهِ، وَلَمْ يُصَلُّوا عَلَى نَبِيِّهِمْ؛ إِلاَّ كَانَ عَلَيْهِمْ تِرَةً! فَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُمْ، وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُمْ))![3]
 - ((أيُّما قَوْمٍ جَلَسُوا، فأَطالُوا الجُلوسَ، ثمَّ تَفَرَّقُوا قَبْلَ أنْ يَذْكرُوا الله تَعَالَى، أوْ يُصَلُّوا على نَبِيِّهِ؛ كانَتْ عَلَيْهِمْ تِرَةً مِنَ اللهِ! إنْ شاءَ عَذَّبَهُمْ وَإنْ شاءَ غَفَرَ لَهُمْ))[4]
 - ((مَا قَعَدَ قَوْمٌ مَقْعَدًالَمْ يَذْكُرُوا فِيهِ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ، وَيُصَلُّوا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ إِلَّا كَانَ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَإِنْ دَخَلُوا الْجَنَّةَ لِلثَّوَابِ))![5]
- ((مَا مِنْ قَوْمٍ يَقُومُونَ مِنْ مَجْلِسٍ لَا يَذْكُرُونَ اللهَ فِيهِ؛ إِلَّا قَامُوا عَنْ مِثْلِ جِيفَةِ حِمَارٍ! وَكَانَ لَهُمْ حَسْرَةً))![6]
- ((مَنْ قَعَدَ مَقْعَدًا لَمْ يَذْكُرِ اللهَ فِيهِ؛ كَانَتْ عَلَيْهِ مِنَ اللهِ تِرَةٌ!
وَمَنْ اضْطَجَعَ مَضْجَعًا، لَا يَذْكُرُ اللهَ فِيهِ كَانَتْ عَلَيْهِ مِنَ اللهِ تِرَةٌ))![7]
- ((مَا جَلَسَ قَوْمٌ مَجْلِسًا فَلَمْ يَذْكُرُوا اللهَ؛ إِلَّا كَانَ عَلَيْهِمْ تِرَةً!
وَمَا مِنْ رَجُلٍ مَشَى طَرِيقًا فَلَمْ يَذْكُرِ اللهَ؛ إِلَّا كَانَ عَلَيْهِ تِرَةً!
وَمَا مِنْ رَجُلٍ أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ فَلَمْ يَذْكُرِ اللهَ؛ إِلَّا كَانَ عَلَيْهِ تِرَةً!))[8]
فقهُ الأحاديث:
قالَ الوالدُ -رحمهُ اللهُ تعالى- بعدَ سياقِهِ لتلكِ الأحاديثِ الشّريفةِ؛ مبيِّنًا وجهَ الدّلالةِ على (الوجوبِ)[9]:
"فقهُ الحديثِ:
لقدْ دلَّ هذا الحديثُ الشّريفُ -وما في معناهُ- على:
(وجوبِ ذكرِ اللهِ سبحانهُ)! وكذا:
(الصّلاةُ على النَّبيِّ صلّى اللهُ عليهِ وسلّمَ) في كلِّ مجلسٍ!
ودلالةُ الحديثِ على ذلكَ؛ من وجوهٍ:
أوَّلاً: قولُهُ: ((فَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُمْ، وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُمْ))!
فإنَّ هذا لا يُقالُ إلاَّ فيما كانَ فِعْلُهُ (واجبًا)، وتركُهُ (معصيةً)!
ثانيًا: قولُهُ: ((وَإِنْ دَخَلُوا الْجَنَّةَ لِلثَّوَابِ))!
فإنّهُ ظاهرٌ في كونِ (تاركِ الذِّكْرِ والصَّلاةِ عليْهِ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ) يستحقُّ دخولَ النَّار، وإنْ كانَ مصيرُهُ إلى الجنّةِ ثوابًا على إيمانِهِ!
ثالثًا: قولُهُ: ((إِلَّا قَامُوا عَنْ مِثْلِ جِيفَةِ حِمَارٍ!)).
فإنَّ هذا (التّشبيهَ) يقتضي: تقبيحَ عملِهِمْ كلَّ التَّقبيحِ! وما يكونُ ذلكَ -إنْ شاءَ اللهُ تعالى- إلاَّ فيما هو حرامٌ ظاهرُ التَّحريمِ! -والله أعلم-!
فعلى كلِّ (مسلمٍ) أن يتنَبَّهَ لذلكَ! ولا يغفلَ عن ذكرِ اللهِ عزَّ وجلَّ، والصّلاةِ على نبيِّهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، في كلِّ مجلسٍ يَقْعُدُهُ، وإلاَّ كانَ عليْهِ تِرَةً وحسْرَةً يومَ القيامةِ!
قالَ المناويُّ في "فيض القدير":
«فيتأكَّدُ (ذكرُ اللهِ، والصَّلاةُ على رسولِهِ) عندَ إرادةِ القيامِ من المجلسِ.
وتحصلُ (السُّنّةُ) في الذِّكْرِ والصّلاةِ بأيِّ لفظٍ كانَ؛ لكنِ الأكملُ[10] في (الذِّكْرِ):
((سُبْحَانَكَ اللّهُمَّ وبحَمْدِكَ، أشْهَدُ أنْ لا إلهَ إلاَّ أنتَ، أَسْتَغْفِرُكَ وأتُوبُ إليْكَ))
وفي (الصّلاةِ على النّبيِّ صلّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ) ما في آخرِ (التَّشهُّدِ)» ا.ه‍‍
قلتُ[11]: والذِّكْرُ المشارُ إليْهِ هو المعروفُ ب‍: (كفّارةِ المجلسِ)، وقدْ جاءَ فيهِ عدَّةُ أحاديثَ؛ أذكرُ واحدًا منها؛ هو أتمّها؛ وهو (كفَّارةُ المجلسِ):
((من قَالَ: سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، أشْهَدُ أنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ، فَقَالَهَا في مَجْلِسِ ذِكْرٍ؛ كَانَتْ عَلَيْهِ كَالطَّابِعِ يُطْبَعُ عليْهِ، ومَنْ قَالَهَا في مَجْلِسَ لَغْوٍ؛ كَانَتْ كَفَّارَةً لهُ))[12]". انتهى كلامُ الوالدِ، رحمهُ اللهُ تعالى.
بعضُ معاني الرّواياتِ السّابقةِ:
"(أيُّما قَوْمٍ جَلَسُوا، فأَطالُوا الجُلوسَ): وأكثرُوا اللَّغَطَ
(ثمَّ تَفَرَّقُوا قَبْلَ أنْ يَذْكرُوا اللهَ تَعَالَى): بأيِّ صيغةٍ كانتْ من صيغَ الذِّكْرِ
(أوْ يُصَلُّوا على نَبِيِّهِ) محمّدٍ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ كذلكَ.
(كانَتْ عَلَيْهِمْ تِرَةً مِنَ اللهِ): أيْ: نقصٌ وتَبِعَةٌ وحسْرَةٌ وندامَةٌ لِتَفَرُّقِهِمْ ولمْ يأْتوُا بما يُكَفِّرُ لَفْظَهُمْ مِنْ حَمْدِ اللهِ، والصَّلاةِ على نَبِيِّهِ محَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليْهِ وعلى آلِهِ وسلَّمَ
(إِنْ شَاءَ): أي: اللهُ
(عَذَّبهُمْ): لِتَرْكِهِمْ كَفَّارَةَ المجْلِسِ
(وإنْ شَاَء غَفَرَ لهُمْ): فضْلاً وطَوْلاً منْهُ تَعَالى، ورحمةً لهُمْ
{إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ}[النساء : 48]" ا.ه‍‍[13]
"(مَنْ قَعَدَ مَقْعَدًا): أَيْ: مَجْلِسًا، أَوْ قُعُودًا
(لَمْ يَذْكُرِ اللهُ فِيهِ): أَيْ: فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ، أَوْ فِي ذَلِكَ الْجُلُوسِ (كَانَتْ): أَيْ: الْقَعْدَةُ، وَفِي نُسْخَةٍ: (كَانَ)؛ أَيْ: الْقُعُودُ
(عَلَيْهِ): أَيْ: عَلَى الْقَاعِدِ
(مِنَ اللهِ): أَيْ: مِنْ جِهَةِ حُكْمِهِ وَأَمْرِهِ وَقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ
 (تِرَةٌ): -بِكَسْرِ التَّاءِ وَتَخْفِيفِ الرَّاءِ-؛ أَيْ: تَبِعَةٌ وَمُعَاتَبَةٌ، أَوْ نُقْصَانٌ وَحَسْرَةٌ، مِنْ وَتَرَهُ حَقَّهُ: نَقَصَهُ، وَهُوَ سَبَبُ الْحَسْرَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ}[محمد: 35]
(وَمَنِ اضْطَجَعَ مَضْجَعًا): أَيْ: مَكَانَ ضِجْعَةٍ وَافْتِرَاشٍ
(لَا يَذْكُرُ اللهَ فِيهِ كَانَتْ): أَيِ: الِاضْطِجَاعَةُ، أَوْ كَانَ أَيِ: الِاضْطِجَاعُ الْمَذْكُورُ، أَوْ عَدَمُ ذِكْرِ اللهِ (عَلَيْهِ مِنَ اللهِ تِرَةٌ) بالوَجْهَينِ....
ثُمَّ الْمُرَادُ بِذِكْرِ الْمَكَانَيْنِ: اسْتِيعَابُ الْأَمْكِنَةِ؛ كَذِكْرِ الزَّمَانَيْنِ بُكْرَةً وَعَشِيًّا لِاسْتِيعَابِ الْأَزْمِنَةِ، يَعْنِي: مَنْ فَتَرَ سَاعَةً مِنَ الْأَزْمِنَةِ، وَفِي مَكَانٍ مِنَ الْأَمْكِنَةِ، وَفِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ مِنْ قِيَامٍ وَقُعُودٍ وَرُقُودٍ، كَانَ عَلَيْهِ حَسْرَةٌ وَنَدَامَةٌ، لِأَنَّهُ ضَيَّعَ عَظِيمَ ثَوَابِ الذِّكْرِ..."ا.ه‍‍[14]
"...حَسْرَةً وندامَةً؛ لأنَّهُمْ قدْ ضَيَّعُوا رَأْسَ مالهِمْ وفَرَّقُوا رِبْحَهُمْ!
وفي هذَا الخبرِ، وما قبْلَهُ أنَّ ذِكْرَ اللهِ، والصَّلاةِ على نبيِّهِ سَبَبٌ لِطِيبِ المجْلِسِ، وأنْ لاَ يَعُودَ على أهْلِهِ حَسْرَةً يومَ القيامةِ" ا.ه‍‍[15]
"(إِلَّا قَامُوا عَنْ مِثْلِ جِيفَةِ حِمَارٍ): "أَيْ: مَا يَقُومُونَ قِيَامًا إِلَّا هَذَا الْقِيَامُ، وَضَمَّنَ (قَامُوا) مَعْنَى (تَجَاوَزُوا وَبَعُدُوا)؛ فَعُدِّيَ بِـ (عَنْ). ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ. أَيْ: لَا يُوجَدُ مِنْهُمْ قِيَامٌ عَنْ مَجْلِسِهِمْ إِلَّا كَقِيَامِ الْمُتَفَرِّقِينَ عَنْ أَكْلِ الْجِيفَةِ الَّتِي هِيَ غَايَةٌ فِي الْقَذَرِ وَالنَّجَاسَةِ! وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: "وَتَخْصِيصُ جِيفَةِ الْحِمَارِ بِالذِّكْرِ؛ لِأَنَّهُ أَدْوَنُ الْجِيَفِ مِنْ بَيْنِ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي تُخَالِطُنَا" اه‍‍. أَوْ لِكَوْنِهِ أَبْلَدَ الْحَيَوَانَاتِ، أَوْ لِكَوْنِهِ مُخَالِطًا لِلشَّيْطَانِ، وَلِهَذَا يُتَعَوَّذُ عِنْدَ نَهِيقِهِ؛ بِالرَّحْمَنِ!" ا.ه‍‍[16]
وقيلَ: "لأنَّ ما يجري في ذلكَ المجلسِ من السَّقَطَاتِ والهفواتِ؛ إذا لم يُجْبَرْ بذِكْرِ اللهِ؛ يكونُ كَجِيفَةٍ تَعَافُهَا النَّفْسُ! وتخصيصُ (الحمارِ) بالذِّكْرِ يُشْعِرُ ببلادَةِ أهلِ ذلكَ المجلسِ!" ا.ه‍‍[17]
قالَ العلاّمةُ العثيمين -رحمهُ اللهُ- موضحًا لبعضِ صورِ ذكرِ اللهِ في المجالسِ:
"هَذِهِ ثَلاثَةُ أحاديثَ فِي بَيَانِ آدابِ الْمَجْلِسِ، وَكُلُّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّه ينبغي للإنسانِ إذَا جَلَسَ مَجْلِسًا أَنْ يَغْتَنِمَ ذِكْرَ اللهِ عَزَّ وَجَلِ، وَالصَّلاَةَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيه وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ؛ حَيْثُ إِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّه ((مَا جَلَسَ قَوْمٌ مَجْلِسًا لَمْ يَذْكُرُوا اللهَ فِيهِ، وَلَمْ يُصَلُّوا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيه وَعَلَى آلهِ وَسَلَّمَ؛ إلاَّ كَانَ عَلَيهِمْ مِنَ اللهِ تِرَةً))؛ يَعْنِي: قَطِيعَةً وَخسارَةً ((إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُمْ، وَإِنْ شَاءَ غَفَرُ لَهُمْ)).
وَيَتَحَقَّقُ ذِكْرُ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- فِي الْمَجَالِسِ بِصُوَرِ عَدِيدَةٍ:
فَمَثَلاً: إذَا تَحَدَّثَ أَحَدُ الأشخاصِ في الْمَجْلِسِ عَنْ آيةٍ مِنْ آيَاتِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- فَإِنَّ هَذَا مِنْ (ذِكْرِ اللهِ).
مِثْلُ أَنْ يقُولَ: نَحْنُ فِي هَذِهِ الأيام فِي دِفْءِ كَأَنَّنَا فِي الرَّبيعِ، وَهَذَا مِنْ آيَاتِ اللهِ؛ لأَنَّنَا فِي الشِّتَاءِ وَفِي أَشَدِّ مَا يَكُونُ مِنْ أَيَّامِ الشِّتَاءِ بَرْدًا، وَمَعَ ذَلِكَ فَكَأَنَّنَا فِي الصَّيفِ؛ فَهَذَا مِنْ آيَاتِ اللهِ!
وَيَقُولُ -مَثَلاً-: لَوِ اجْتَمَعَ الْخَلْقُ عَلَى أَنْ يُدْفِئُوا هَذَا الْجَوَّ فِي هَذِهِ الأيامِ الَّتِي جَرَتِ الْعَادَةُ أَنْ تَكُونَ بَارِدَةً؛ مَا اسْتَطَاعُوا إِلَى ذَلِكَ سَبِيلاً!
وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.
أَوْ -مَثَلاً-: يَذْكُرُ حالَةً مِنْ أَحَوَالِ النَّبِيِّ عَلَيهِ الصَّلاَةُ وَالسّلامُ؛ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ:
كَانَ النَّبِيُّ عَلَيهِ الصَّلاَةُ وَالسّلامُ أَخْشَى النَّاسِ للهِ، وأتقاهُمْ للهِ؛ فَيَذْكُرَ عَلَيهِ الصَّلاَةُ وَالسّلامُ، ثَمَّ يُصَلِّي عَلَيهِ، وَالْحاضِرُونَ يَكُونُونَ -إذَا اسْتَمَعُوا إِلَيه- مِثْلَهُ فِي الأجْرِ.
هَكَذَا يَكُونُ ذِكْرُ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- وَالصَّلاَةُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيه وَسَلَّمَ، وَإِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الأصلِ إذَا جَلَسَ قَالَ: "مَا شَاءَ اللهُ لَا قُوَّةَ إلّا بِاللهِ" "لَا إلهَ إلاَّ اللهِ"، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.
الْمُهِمُّ أَنَّ الإنسانَ الْعَاقِلَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَعْرِفَ كَيْفَ يَذْكُرُ اللهَ وَيُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْمَجْلِسِ.
وَمِنْ ذَلِكَ -أيضًا- أَنَّه إذَا انْتَهَى الْمَجْلِسُ، وَأَرَادَ أَنْ يَقُومَ، يقولُ:
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ أَشْهْدُ أَنْ لَا إلهَ إلاَّ أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيكِ.
وَفِي هَذِهِ الأحاديثِ الثَّلاثَةِ دَليلٌ عَلَى أَنَّه ينبغِي للإنسانِ أَلاَّ يُفَوِّتَ عَلَيْهِ مَجْلِسًا وَلَا مضْطَجِعًا إلاَّ ويذكرَ اللهَ؛ حَتَّى يَكونَ مِمَّنْ قَالَ اللهُ فِيهِمْ: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ}[آل عمران: 191]". ا.ه‍[18]
~ ~ ~
أسألُهُ تعالى أن يوفِّقَنَا في مجالسِنَا وكافّةِ أحوالنِا لما يحبِّهُ ويرضاهُ.
وصلَّى اللهُ على نبيِّنا محمّدٍ وعلى آلِهِ وسلَّمَ.







[1] - {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيمًا} [الأحزاب: 35].
[2] - {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللهِ وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة: 10].
[3] - رواه التّرمذيّ، وقال عنه الوالد: "صحيح". يُنظر: "سنن التّرمذيّ"، كتاب الدّعوات، بابٌ في القوم يجلسونَ ولا يذكرونَ اللهَ! رقم الحديث: (3380). ويُنظر: "سلسلة الأحاديث الصّحيحة"، الحديث رقم: (74).
[4] - "صحيح الجامع الصّغير"، الحديث رقم: (2735).
[5] - رواه أحمد، وغيره، يُنظر: "سلسلة الأحاديث الصّحيحة"، الحديث رقم: (76).
[6] - رواه أبو داوود في كتاب الأدب، باب: كراهية أن يقوم الرَّجلُ من مجلسه ولا يذكر الله عزَ وجلَ، الحديث رقم: (4855). يُنظر: "سلسلة الأحاديث الصّحيحة"، الحديث رقم: (77).
[7] - رواه أبو داوود في كتاب الأدب، باب: كراهية أن يقوم الرَّجلُ من مجلسه ولا يذكر الله عزَ وجلَ، الحديث رقم: (4856). يُنظر: "سلسلة الأحاديث الصّحيحة"، الحديث رقم: (78).
[8]- رواه أحمد، وقال عنه الوالد: "..وله شاهد من حديث ابن عمرو؛ بلفظ: ((مَا مِنْ قَوْمٍ جَلَسُوا مَجْلِسًا لَمْ يَذْكُرُوا اللهَ فِيهِ، إِلَّا رَأَوْهُ حَسْرَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ)) " السّلسلة الصّحيحة" الحديث رقم (80).
[9] - وذلكَ في سلسلته الذّهبيّة: "الصّحيحة"، بعد الحديث رقم (80).
[10] - "يقصد -رحمه الله- ب‍ (الأكمل): الذِّكرَ بالمأثور؛ لأنه أفضل من أن يذكر المسلم كلامًا من عنده (بأي لفظ كان)..". أفادتني به شقيقتي: أنيسة (أمّ عبد الله)، جزاها اللهُ خيرًا وحفظهَا.
[11] - أي الوالدُ -رحمه الله-.
[12] - أخرجه الطّبرانيّ وغيره. يُنظر: "سلسلة الأحاديث الصّحيحة"، الحديث رقم: (81).
[13] - "فيض القدير شرح الجامع الصغير"، للمناويّ -رحمه الله-. بشيء من الاختصار.
[14] -  "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح"؛ لـ: علي الملاّ القاري -رحمه الله-. مختصرًا.
[15] - "فيض القدير شرح الجامع الصغير"، للمناويّ -رحمه الله-.
[16] -  "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح"، لعلي الملاّ القاري -رحمه الله-.
[17] -  "فيض القدير شرح الجامع الصغير"، للمناويّ -رحمه الله-.
[18] - "شرح رياض الصالحين" (4/367-368). ملاحظة: صيغ ذكر اللهِ التي أوردها العلاّمة -رحمه الله- إنّما هي على سبيلِ التّمثيل، لا الاِلتزام والحصرِ، فلْيُتَنَبَّه!
~ ~ ~
كتبتْهُ: حسّانة بنت محمّد ناصر الدّين الألبانيّ
الإثنين: 25/ صفر/ 1434ه‍

"بيانُ منزلةِ (السنّةِ) في (الكتابِ والسنّةِ)"! للعلاّمة ربيع المدخليّ -حفظهُ اللهُ-

بسمِ اللهِ الرّحمنِ الرّحيمِ
 
"بيانُ منزلةِ (السنّةِ) في (الكتابِ والسنّةِ)"!
للعلاّمة: ربيع المدخليّ -حفظهُ اللهُ تعالى-
 
قالَ -حفظهُ اللهُ-:
"تعريفُ (السُّنَّةِ):
هيَ -في اصطلاحِ المحدِّثين-: كلُّ ما أُثِرَ عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ؛ من: (قولٍ) أو (فعلٍ) أو (تقريرٍ) أو (سيرةٍ).
و(السُّنّةُ) بهذا المعنى؛ مرادفةٌ ل‍لحديثِ النّبويِّ.
ولها منزلةٌ عظيمةٌ! وميزاتٌ مرتبطةٌ بميزاتِ ومنزلةِ الرّسولِ العظيمِ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ؛ منها:
1) لقد ميّزَ اللهُ (رسولَهُ) بالعصمةِ فيما يبلغُهُ عن ربِّهِ -عزَّ وجلَّ-، وهيَ ميزةُ جميعِ الأنبياءِ، عليهم الصلاةُ والسّلامُ.
وهذهِ (العصمةُ) ليستْ خاصّةً بتبليغِ القرآنِ؛ بلْ في كلِّ ما يُبَلِّغُهُ عنْ ربِّهِ -عزَّ وجلَّ-؛ من (قولٍ) أو (فعلٍ) أو (تقريرٍ)؛ فهوَ لا ينطقُ عن هوًى! كمَا قالَ تعالى:
{وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى}{مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى}{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى}{إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 1-4].
ومن خصَّ هذِهِ (العصمةَ) بتبليغِ القرآنِ دونَ سُنّةِ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ؛ فقدْ ضلَّ وغوَى!
2)  وقرَنَ اللهُ الإيمانَ بهذا الرّسولِ الكريمِ بالإيمانِ بِهِ - عزَّ وجلَّ- في كثيرٍ من الآياتِ.
قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ}[النور:62].
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيم}[الحديد: 28].
وقال تعالى: {لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ}[الفتح: 48].
فالإيمانُ بِهِ يقتضِي الإيمانَ بكلِّ ما جاءَ بِهِ، وأخبرَ عنْهُ من الأمورِ الماضيةِ والمستقبليّةِ؛ من أخبارِ الرُّسُلِ وأممِهِمْ، وأخبارِ الجنَّةِ والنَّارِ وأهلِهِمَا، وأشراطِ السَّاعةِ، والملاحِمِ، وغيرِهَا.
3) وأحلَّهُ منزلةً رفيعةً؛ هي: أنْ يكونَ المبيِّنُ لكتابِهِ، والمفسِّرُ لما أُجْمِلَ من آياتِهِ، والمخَصَّصُ لعمومَاتِهِ، والمقيِّدُ لمطلقاتِهِ، فقال -عزَّ من قائلٍ-:
{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ }[النحل:44].
فيالها من (منزلةٍ)! أرغمَ اللهُ أنوفَ من لم يرضَوهَا، ويجادلونَ فيها بالباطلِ!
4) وأمرَ بطاعتِهِ في مواضعَ كثيرةٍ؛ تربُو على ثلاثينَ موضعًا!
وقرَنَ طاعتَهُ بطاعتِهِ؛ بلْ جعلَ طاعتَهُ طاعةً لله! ومعصيتَهُ معصيةً لله!
قالَ تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ}[النساء: 80].
وقالَ تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ}[الأنفال:20].
وقالَ تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}[النساء:59].
وقالَ تعالى {قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ}[آل عمران:32].
فهذَا التّأكيدُ على (طاعتِهِ) مقرونةً بطاعةِ اللهِ، وهذا الأمرُ بالرَّدِّ إلى اللهِ والرّسولِ ليسَ له معنًى إلاَّ الانقيادَ لَهُ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ، واعتقادَ وجوبِ طاعتِهِ، والحذرِ من معصيتِهِ!
5) ووعدَ اللهُ بأعظمِ الجزاءِ لمنْ يطيعُ اللهَ ورسولَهُ، في غيرِ ما آيةٍ! منها:
قولُهُ تعالى -عقِبَ تفصيلِ المواريثِ-:
{تِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ }[النساء:13].
ومنها: {وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا}{ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللهِ وَكَفَى بِاللهِ عَلِيمًا}[النّساء: 69-70].
6) ونفَى (الإيمانَ) عمَّنْ لا يُحَكِّمْهُ في شؤونِ الدّينِ والدّنيا!
أو يجدُ حرجًا في الاحتكامِ إليه!
أو لا يسلِّم تسليمًا ظاهرًا وباطنًا لقضائِهِ!
قالَ تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}[النّساء:65].
7) وحذّرَ اللهُ من مخالفتِهِ أشدَّ التّحذيرِ! وتوعَّدَ من يخالفُ أمرَهُ بالسُّقوطِ في (الفتنةِ) و(بالعذابِ الأليمِ)!
قالَ تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[النّور: 63].
8) ووصفَ من يتهرَّبُ من الاحتكامِ إليهِ، ويصُدُّ عنْهُ وعنْ حكمِهِ (بالنّفاقِ)!
قالَ تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} [النساء:61].
9) ووصفَ من يُعْرِضُ عن حكمِهِ، ولا يُذْعِنُ لهَ بأنّهُمْ غيرُ مؤمنينَ!
وأنَّ دعواهُمُ (الإيمانَ) كاذبةً!
وبأنَّ في قلوبهِمْ مرضًا!
ووصفَهُمْ بالظّلمِ، وسوءِ الظّنِّ باللهِ وبرسولِهِ!
فقالَ: {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ}
{وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ}{وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ}{أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [النّور 47- 50].
10) وجعلَ اللهُ من علاماتِ المؤمنينَ الصّادقينَ:
- الاستجابةَ لمن يدعوهُمْ إلى حكمِ اللهِ ورسولِهِ!
- وإعلانَ السّمعِ والطّاعةِ!
وشهدَ لهُمْ بأنهُمْ همُ المفلحونَ والفائزونَ، فقالَ:
{إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}{وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ}{النّور:51-52].
ووعدَ اللهُ -سبحانَه وتعالى- من يطيعُ الرسولَ بالهدايةِ إلى الحقِّ! فقالَ تعالى:
{وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ}[النّور: 54].
11) وميَّزَ اللهُ الذِّكْرَ المنَزَّلَ عليْهِ بالحفظِ! وهذَا الذِّكْرُ يشملُ (القرآنَ والسُّنّةَ)، وهيَ بيانُهُ! ولا يتمُّ حفظُ القرآنِ إلا بحفظِ بيانِهِ!
وهذَا كما يشهدُ به القرآنُ؛ يشهدُ بِهِ الواقعُ وتاريخُ هذِهِ الأمّةِ، وجهادِ فحولِهَا في الحفاظِ على السُّنّةِ وحفظِهَا، واتّخاذِ كلِّ الوسائلِ الحكيمةِ، واستخدامِ الأصولِ، والطّرقِ والمناهجِ لتحقيقِ هذا الحفظِ في أجلَى صُوَرِهِ وأمتنِهَا، ولا يجحدُ هذا إلاَّ مكابرٌ!
هذِهِ المزايَا وغيرُهَا -ممّا لا يتّسعُ المقامُ لذكرِهِ لهذَا الرّسولِ الكريمِ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ- تُعطي بداهة ًعندَ أُوْلى النُّهَى والألبابِ مكانةً واعتبارًا وإجلالاً لسُنّةِ محمّدٍ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ! وأنَّهَا براهينُ ساطعةٌ، وحججٌ قاطعةٌ مع القرآنِ جنبًا إلى جنبٍ في كلِّ أبوابِ الدِّينِ والدُّنيا في العقائدِ والعباداتِ والمعاملاتِ والسّياسةِ والاجتماعِ والاقتصادِ!
ومن رأَى أو قالَ غيرَ هذا فقدْ تاهَ، وضلَّ ضلالاً مبينًا، وشاقَّ اللهَ ورسولَهُ، واتّبعَ غيرَ سبيلِ المؤمنينَ!
{وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}[النساء:115].
~ ~ ~
* وَمِنَ السُّنَّةِ:
ما جَاءَ عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ عباسٍ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ، قَالَ:
((تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا إِنَّ تَمَسَّكْتُم بِهِ لَنْ تَضِلُّوا بَعْدِي أَبَدًا: كِتَابَ اللهِ وَسِنَتَي)) [1]
وعنِ المقدادِ بنِ معدِ يكرب، رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قالَ: قال رَسُولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ:
((يُوشِكُ الرَّجُلُ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ، يُحَدَّثُ بِحَدِيثٍ مِنْ حَدِيثِي، فَيَقُولُ: بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَمَا وَجَدْنَا فِيهِ مِنْ حَلَالٍ اسْتَحْلَلْنَاهُ، وَمَا وَجَدْنَا فِيهِ مِنْ حَرَامٍ حَرَّمْنَاهُ، أَلاَ وَإِنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلُ مَا حَرَّمَ اللهُ))[2]
وعنْ أبي رافعٍ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ قالَ:
((لَا أُلْفَيَنَّ أَحَدَكُمْ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ، يَأْتِيهِ الْأَمْرُ مِنْ أَمْرِي مِمَّا أَمَرْتُ بِهِ أَوْ نَهَيْتُ عَنْهُ، فَيَقُولُ: لَا نَدْرِي! مَا وَجَدْنَا فِي كِتَابِ اللهِ اتَّبَعْنَاهُ))![3]
وعنْ أبي هريرةَ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ قالَ:
((كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ إِلَّا مَنْ أَبَى))!
قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ! وَمَنْ يَأْبَى؟!
قَالَ: ((مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الجَنَّةَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى))![4]
وعنْ أبي موسى، رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ قالَ:
((" إِنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللهُ بِهِ، كَمَثَلِ رَجُلٍ أَتَى قَوْمًا فَقَالَ: يَا قَوْمِ! إِنِّي رَأَيْتُ الجَيْشَ بِعَيْنَيَّ، وَإِنِّي أَنَا النَّذِيرُ العُرْيَانُ، فَالنَّجَاءَ! فَأَطَاعَهُ طَائِفَةٌ مِنْ قَوْمِهِ، فَأَدْلَجُوا، فَانْطَلَقُوا عَلَى مَهَلِهِمْ فَنَجَوْا، وَكَذَّبَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ، فَأَصْبَحُوا مَكَانَهُمْ، فَصَبَّحَهُمُ الجَيْشُ فَأَهْلَكَهُمْ وَاجْتَاحَهُمْ، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ أَطَاعَنِي فَاتَّبَعَ مَا جِئْتُ بِهِ، وَمَثَلُ مَنْ عَصَانِي وَكَذَّبَ بِمَا جِئْتُ بِهِ مِنَ الحَقِّ))[5]


[1] - أخرجه مالك في "الموطأ" (2/899)، بلاغًا، والحاكم في المستدرك (1/93) متصلاً مرفوعًا، وصححه الألبانيّ في "صحيح الجامع" (2937). وقال ابن عبد البرِّ في "التمهيد" (24/331): "وهذا أيضًا محفوظ معروف مشهور عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، عند أهل العلم شهرة يكاد يُستغنى بها عن الإسناد"ا.ه‍ 
[2] - أخرجه ابن ماجه في مقدمة "السنن" (1/6) حديث (12)، وصحّحه الألبانيّ في "صحيح ابن ماجه" حديث (12)، وأخرجه أبو داود في السّنّة، حديث (4604) بلفظ أطول وفيه: ((ألاَ إنِّ أُوتِيْتُ الكِتَابَ ومثلَهُ معَهُ...))، وأخرجه الترمذي في "العلم"، حديث (2664).
[3] - أخرجه أبو داود في السنة، حديث (4605)، والترمذي في العلم، حديث (2663)، وابن ماجه في المقدمة، حديث (13)، وإسناده صحيح،  وصحّحه الألبانيّ في "صحيح أبي داود" و"صحيح ابن ماجه".
[4] -  أخرجه البخاري في كتاب الاعتصام، حديث (7280).
[5] - أخرجه البخاري في كتاب الاعتصام حديث (7283)، ومسلم حديث (2283)" ا.ه‍
~ ~ ~
نقلتُهُ وحاشيتَهُ من كتاب:
"مجموع كتب ورسائل وفتاوى فضيلةِ الشّيخ العلاّمة ربيع بن هادي عُمير المدخلي"
مبحث: "حجّيّة خبر الآحاد في العقائد والأحكام"
الفصل الأوّل: "بيان منزلة السّنّة في الكتابِ والسّنّة"
صفحة: 12-16، المجلّد الخامس 
الطّبعة الأولى (1431هـ) 
دار الإمام أحمد للنشر والتّوزيع بمصر.